الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

159-الهجرة تغيير للبيئة ومقدمة للنصر


الهجرة تغيير للبيئة ومقدمة للنصر
د/منى زيتون
الثلاثاء 11 سبتمبر 2018م، الموافق أول المحرم 1440هـ
وعلى المثقف الجمعة 30 أغسطس 2019، الموافق ختام عام 1440هـ



في كل عام، ونحن على أعتاب عام هجري جديد نتذكر هجرة سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رغم أن رحلة الهجرة بدأت أواخر صفر، ووصل النبي وصاحبه المدينة المنورة في الثاني عشر من ربيع الأول، لكن لأن المحرم هو أول شهور السنة القمرية عند العرب فقد اعتُبر أول المحرم في السنة التي هاجر فيها النبي بداية التقويم الهجري.
ودروس الهجرة النبوية كثيرة، أكبر من تلك الدروس الدينية التي يركز عليها المشايخ عادة، لعل أهمها هو فكرة الانتقال ذاتها وأثرها في تغير حياة الإنسان.
في جميع العلوم التي تتعلق بالإنسان نُوقشت قضية أثر الوراثة وأثر البيئة، وتبنى علماء أثر الوراثة وعظّموه، بينما أعطى آخرون أكبر الأثر للبيئة؛ فعندما ضخّم علماء الوراثة من تأثير مورثاتنا (الجينات) التي تحمل صفاتنا الوراثية من أبوينا، وادّعوا أنها المُشكِّل الرئيسي لحياتنا، لدرجة أنهم عزوا إليها إصابتنا بالأمراض والبدانة، وتوسعوا إلى حد اتهامها بأنها سبب الشذوذ الجنسي عند بعض الناس وسبب ارتكاب المجرمين لجرائمهم، ظهر في العقد الأخير ما يُعرف بعلم فوق الوراثة  epigenetics، الذي أعاد الاعتبار لأثر البيئة ومسئولية الإنسان عن حياته، واتضح أن نمط حياة الإنسان التي يحياها وخياراته فيها هو الذي يحدد للمورثات ماذا عليها أن تفعل، وليس العكس.
ومن الوجهة الدينية فكلا العاملين منصوص على أهميته، وكما نصحنا الرسول وقال: "تخيروا لنطفكم" لمعرفته بأثر الوراثة، فإنه قد هاجر، ليغير البيئة من حوله.
وفي كتاب الله يوجد حوار عظيم بين الملائكة وبعض المجرمين، أخبرنا الله تعالى أنه حاصلٌ يوم القيامة، يتعلل فيه المجرمون ويبررون جرمهم بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، فترد عليهم الملائكة مذكرة إياهم بأن أرض الله واسعة! ثم يخبرنا تعالى بمصير هؤلاء المحتوم بأن يُصيَّروا إلى النار ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)[النساء: 97].
هاجر محمد كما هاجر جميع الأنبياء من قبله. وصدق ورقة بن نوفل عندما أخبره بعد لقائه الأول مع جبريل بأن قومه سيخرجونه، وأن ما من أحد أتى بمثل ما أتى به لقومه إلا أخرجوه. ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا[التوبة: 40].
قبله هاجر إبراهيم الخليل عليه السلام رغم أن الله تعالى قد أنجاه بعد أن ألقاه المجرمون في النار. ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات: 99]. وهاجر موسى بعد أن خاف على نفسه ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 21]. وبعدهما أمر الملاك يوسف النجار أن يرحل بالسيدة مريم وابنها المسيح عليهما السلام إلى مصر لأن الرومان كانوا يطلبون قتل المسيح.
في كل هذه الحالات كان الله تعالى كفيلًا بحماية أعز خلقه وأحبهم إليه، وألا يكلفهم الانتقال ليحموا أنفسهم، لكنها سُنن الكون والدروس والعبر التي يجب أن يأخذها البشر من قصص الأنبياء. هاجر الأنبياء ليعلمونا ألا نقبل بالاستضعاف، وأننا لسنا شجرة ثابتة لا تتحرك، بل بشر عليهم الانتقال إن ضاقت بهم سُبل العيش الكريم.
لكن موسى عاد ودعا فرعون، ثم كان خروجه الثاني ومعه بني إسرائيل هذه المرة مقدمة للنصر على فرعون، وكذا المسيح عاد ورغم أنهم ظنوا أنهم أجهضوا دعوته فإنه انتصر وارتفع شأنه وشأن تابعيه، ومثلهما عاد محمد منتصرًا يوم فتح مكة؛ لذا فساداتنا العارفون بالله كانوا يتفاءلون بالنُقلة إن حدثت عن اضطرار، ومن جرّاء ظلم، فالنصر والرفعة آتيان بحول الله وقوته لمن أُخرج مضطرًا بعد أن فقد شعوره بالأمان، واستشعر أنه سيُهان في مكانه إن بقي فيه.
بقيت كلمة أقولها؛ وهي أن الإسلام كانت له بدايتان؛ فبدايته الأولى كانت بعد نزول الوحي على سيدنا محمد للمرة الأولى، وأما بدايته الثانية فهي هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
كانت السيدة خديجة باعتبارها زوجته أول من آمن بنبينا، فهي أول من تلّقاه بعد أول لقاء له مع رسول السماء، بعدها بدأت رحلة الدعوة برجل وطفل كانا أول من آمن به بعد زوجته، سيدنا الصديق أبو بكر وابن عمه سيدنا علي بن أبي طالب، وفي البداية الثانية للإسلام؛ الهجرة، يظهر أيضًا الرجلان أعينهما، أبو بكر وعلي، فالأول صاحبه في الهجرة، والثاني من فداه ونام في فراشه، وأدّى عنه أماناته، ثم هاجر ببناته إليه في المدينة.
لكننا اعتدنا من مشائخ زماننا إنزال رتبة سيدنا علي، وإغفال فضائله، حتى أن منهم من تأتي ذكرى الهجرة فلا يكادون يذكرونه! والسبب الاتهامات المعلّبة من خوارج زماننا مدعي التسلف لكل من أعلى قدر الإمام وأنزله منزلته التي يستحقها بأنه متشيع، وفي قلبه كذا وكذا من صحابة النبي! ولا أدري هل يفعلون ذلك مكايدةً في الشيعة أم أن الله يفضح ما في نفوسهم؟! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عهد إلى سيدنا علي فقال: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق". [رُوي بألفاظ مختلفة بطرق مختلفة؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه عن رواية سيدنا علي (131/78) والإمام أحمد في مسنده عن السيدة أم سلمة (26387) والإمام الترمذي في سننه (3736- 5/643)].