الاثنين، 3 يناير 2022

270-إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ

إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

من أهم ما يميز الإنسان الناجح تقبل الواقع دون تشويه ودون سباحة عبر الزمن! إنه يدرك الواقع جيدًا ويجيد التعامل معه، ويتعامل مع غيره من البشر على ما هم عليه في اللحظة الآنية، فلا يعنيه ما كانوا عليه في الزمن القريب أو البعيد، ولا ما يُتصور أن يكونوا عليه في المستقبل القريب أو البعيد.

وكثيرون من بيننا لا يمتون لهذا الوصف بأدنى صلة، فهم لا يتعاملون مع واقعهم بل يهربون منه إلى ماضٍ أكثر سعادة أو إلى خيالات وأحلام يقظة، كما لا يتقبلون الترقي الذي قد يحدث لبعضٍ ممن يعرفونهم وتحسن حالهم للأفضل مقامًا أو علمًا أو مستوى مادي أو غيره، ولا أنسى أن موجهًا للعلوم من هؤلاء الرافضين للواقع قال أمامي ذات مرة –جادًا لا هازلًا- إن المرحوم الدكتور أحمد زويل العالم المصري الحائز على جائزة نوبل هو زميل له، فاعتقدت أنه زامل زويل في كلية العلوم، وإذا به يرد علي بـأن زويل لو كان عاد إلى مصر بعد البعثة لكان موجهًا للعلوم مثله! وما سبق يُعرف بمعضلة "ما كان وما هو كائن وما سيكون"، والتي على أساسها تتحدد درجة وعي الإنسان.

وبعضهم عندما يكون ماضيه بالأساس سيئًا، وهو بحاجة للتهرب منه أكثر مما هو بحاجة للتهرب من واقعه، يختار أن يهرب من ماضيه بالإسقاط على الماضي وربما على المستقبل لغيره. وفي حوار سيدنا يوسف وإخوته ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 77]، نجد هؤلاء الخبثاء الذين كادوا لأخيهم الصغير في ماضيهم الأسود ينقبون عن شيء يسير في ماضيه أثناء لعبه في طفولته!

وما فعله أبناء يعقوب في هذا الموقف هو ما نسميه بالإسقاط على الماضي؛ فصاحب التاريخ الملوث يحاول تلويث تاريخ غيره بالتنقيب أو الافتراء أو حتى بالظن أن باقي الناس لا بد وأن لديهم في ماضيهم مثله ما يشين. وبعضهم يسقط على المستقبل فنجد أحدهم يظن -ودون بيِّنة- أن أي مسئول في الدولة هو لص، ولا فرق عنده بين (س) و (ص) من بينهم، وهذا الظن يشينه أكثر مما يشينهم لمن يعي معناه، فحقيقته أنه هو إن آلت إليه أمثال تلك المناصب الكبيرة لتربح من خلالها.

وهناك قصة قرأتها ذات مرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصلح مثالًا رائعًا للإسقاط، ولا أدري من أين فتح الله بها على كاتبها. تقول القصة القصيرة إن زوجين كلما جلسا في حجرة بمنزلهما ذات نوافذ زجاجية نظرت الزوجة إلى غسيل جارتها المعلق على حبالها في الشقة المقابلة وعابت على الجارة أن غسيلها متسخ! وذات يوم فوجئت الزوجة أن غسيل جارتها نظيف فتعجبت، فإذا بزوجها يخبرها أنه لاحظ أن زجاج نافذتهم متسخ وأنه قام بتنظيفه، وأن المشكلة لم تكن عند جارتهم فغسيلها كان ولا زال نظيفًا، وقال لها إن القذارة كانت من جهتنا، ولما نظفناها عندنا رأينا النظافة لدى الآخرين! وقطعًا فإن هذا لا يعني أن رؤية السوء في السيئيين من علامات السوء فينا! ولكنه لفت لأن السوء إن لم يكن في صاحبك فهو فيك، وقد ناقشت هذا المعنى تفصيلًا في مقال "قد باء بها أحدهما".

وهناك حقيقة أخرى يلفتنا إليها رد الصديق يوسف على إخوته؛ حيث جاء الرد القرآني على لسان يوسف موضحًا بأن لقصة السرقة التي ادعوها أساسًا، وليست مختلقة كليًا، ولكن ‏الحادثة ليست على الصفة التي ‏يصفونها بها. ‏وكم من أمر ليست حقيقته على ما يظهر عليه؛ إذ ينبغي أن نضع نصب أعيننا أن ظواهر الأمور ليست دائمًا كبواطنها، وعلينا ‏أن نُعوِّد أنفسنا على أن نعف ألسنتنا خاصة عما لم نشهد، وكم من قصة انتشرت عبر مواقع التواصل فأساءت إلى أصحابها وحُكيت لي من بعض المطلعين بصورة تبرئهم، والله أعلم أين هي الحقيقة.

على سبيل المثال، فقد انتشر منذ سنوات أن سيدة ثرية في أحد المطارات المصرية اعتدت على أحد الضباط في المطار بالألفاظ الخارجة لما منعها من ركوب الطائرة، وبدا عليها من خلال مقاطع فيديو عديدة وكل منها شديد القصر، أنها ليست في كامل وعيها وتحت تأثير مخدر أو مسكر ما، وكان مصيرها السجن، ولكني سمعت القصة بطريقة أخرى بعيدًا عن مواقع التواصل بأن الضابط شك أنها ليست صاحبة جواز السفر لأنها كانت تلبس فستانًا للسهرة أشبه في تصميمه بالجلابية، فأساء تقدير شخصيتها ومن تكون، فمنعها من ركوب الطائرة، فاتصلت بأهلها فطلبوا منها البقاء ساكنة في المطار، فلما استشعر الضابط المصيبة التي ستقع حتمًا فوق رأسه أحضر لها كوب عصير فاكهة بعد أن دس فيه حبة مخدرة، ليجد لنفسه مبررًا لمنعه إياها من ركوب الطائرة، وهي بحسن نية ظنت أنه يريد أن يراضيها فشربت العصير، وفقدت اتزانها، واستغل الفرصة فكان يقول لها قولي كذا وقولي كذا ويصورها وهي تتلفظ بتلك الألفاظ، وكان ما كان.

ومنذ حوالي عامين سمعنا في الإسماعيلية أن محافظ المدينة قد تزوج بنتًا صغيرة طالبة في الجامعة وأبوها يعمل في مبنى المحافظة، وأنها كثيرًا ما كانت تحضر إلى مكتبه مع والدتها قبل إتمام الزواج، ولكن القصة ما أن بلغت القاهرة وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حتى تبدلت وتقذرت وصارت إلى حال أوصلت الرجل إلى الاستقالة بعد سوء السمعة الذي لحقه!

 

ليست هناك تعليقات: