السبت، 27 فبراير 2021

248-الدولة المصرية وإهدار مفهوم الملكية الخاصة للمواطنين

 

الدولة المصرية وإهدار مفهوم الملكية الخاصة للمواطنين

د/ منى زيتون

السبت 27 فبراير 2021

وعلى المثقف، الأحد 28 فبراير 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/953736

في مقال سابق بعنوان "اضطراب الشخصية المتعدد كحل سياسي" تطرقت إلى قضية تقمص الرئيس السيسي لبعض الشخصيات التاريخية لتخرجه من ورطاته وعثراته المتلاحقة سياسيًا ‏واقتصاديًا!‏

شرحت في ذلك المقال مفهوم هذا الاضطراب وأسبابه، وذكرت فيه أن السيسي يتبادل تقمص شخصيتين رئيسيتين منذ عرفناه؛ هما شخصية الخديو إسماعيل، وشخصية الرئيس السادات. ثم ذكرت أنه عندما تلاحق الضغوط كلا الشخصيتين اللاتي يتم تبادل تقمصهما ولا يمكن لأيهما تخفيفها عن النفس فإن ذلك يدفع الفرد إلى الهروب إلى شخصية ثالثة وربما رابعة لتخفيف أو تجنب الضغط النفسي الذي تضعه فيه سلوكياته.

وكان ذلك المقال بمناسبة استقبال مصر وفد من القبائل الليبية والتي فُسرت بمحاولة التدخل العسكري المصري في ليبيا، وقلت إن التاريخ لا زال يذكر لعبد الناصر اجتماعه بوفد قبائل اليمن ليعطوه تفويضًا بالتدخل العسكري في اليمن. وكان المقال متزامنًا أيضًا مع قرارات السيسي المتفرقة بشأن مخالفات البناء ونزع الملكيات الخاصة، وقلت وقتها إنه أصبح معنا عمر المختار، وأيضًا جمال عبد الناصر!‏

وربما كان علينا أن نحمد الله تعالى لأنه لولا نكسة 1967 التي تُذيل تاريخ عبد الناصر لكانت شخصية جمال عبد الناصر هي الشخصية الرئيسية التي يتقمصها السيسي؛ فهو الضابط الثائر مثله، والذي تحالف مع الإخوان ثم غدر بهم مثله، والذي يرى في نفسه زعيمًا ذا كاريزما مثله! وإن كان أي مدقق سيرى البون الشاسع بين الشخصيتين، خاصة في مسألة الكاريزما، فكاريزما السيسي متوهمة لا وجود لها سوى في عقله.

لكن يمكنني الجزم بأن نكسة 1967 لم تلغِ حالة الإعجاب والتقمص لدى السيسي بشخصية عبد الناصر، ولكنها جعلته يكتفي بمحاكاته جزئيًا في بعض سياساته الداخلية مع تخوف وحذر من تقليده في سياساته الخارجية خشية أن تدور الأيام عليه، فتخوف السيسي من إرسال جنود مصريين إلى اليمن، وتخوف أيضًا من التدخل العسكري في ليبيا، وهذا من حسن الحظ. والقول ذاته صحيح بأن السيسي أيضًا يحذر من أن تسوقه السلوكيات التي يحاكيها لدى عبد الناصر في سياساته الداخلية إلى أن تنقلب الأوضاع داخليًا عليه، ولعل حالة عدم الاستقرار التي سادت الشارع المصري في الربع الثالث من سنة 2020 اعتراضًا على قراراته بهدم المباني غير المرخصة قد زادت تخوفه من أن يحذو حذو ناصر تمامًا.

وهنا يجدر بي أن أشير إلى أنه ليس كل بناء يُبنى دون ترخيص هو عدوان من المواطنين على الرقعة الزراعية أو تخطي لسيادة القانون، فكثير من الأراضي التي تعتبرها الدولة أراضٍ زراعية ليس لها مسقى لتُروى منه؛ لأن الترع والقنايات التي كانت توصل مياه الري إليها تم ردمها منذ عقود. وهناك حي في محافظة الشرقية بُني على أكتاف المواطنين وبأموالهم، وكانت تُعطى تراخيص البناء فيه للمواطنين في أواخر القرن العشرين، ثم أوقف الحي تراخيص البناء لاستغلال المواطنين بإجبارهم على تحمل تكاليف إدخال المرافق إلى مبانيهم، وهو ما حدث، ثم يأتي الحي ذاته اليوم يطالب المواطنين بدفع غرامات لترخيص مبانيهم التي بُنيت تحت سمع وبصر الحي! والأدهى والأمر أن طالب الحي أحد الحاصلين على ترخيص بالبناء منذ حوالي ربع قرن بسداد غرامة البناء دون ترخيص! وبرج بالكامل كان مرخصًا للبناء من أرضه لسمائه تم هدمه ضمن حملة الإزالة، ودون إنذار، فأصابت صاحبه جلطة ومات من فوره.

فلم تكن حملة نظام السيسي بشأن تراخيص البناء هي قراراته الأولى التي تظهر رغبته في التعدي على الملكيات الخاصة للمواطنين وكأن ليس لأحد أن يملك في مصر غيره أو بإذنه، وكأن كل ما في مصر ملك للدولة –والتي يراها مساوية لنفسه؛ فالدولة= السيسي- وله أن يتصرف فيه كما يشاء، محاكيًا ومقلدًا بذلك جمال عبد الناصر، وكان السيسي قد أصدر قبل سنوات قرارات خصت الاستيلاء على ملكيات ‏الإخوان تحديدًا فيما يشبه التأميم الناصري لأموال فئة الباشوات، وقرارات أخرى لنزع الملكية الخاصة عن سكان مناطق كثيرة بدعوى المنفعة العامة، وادعاء ملكية الدولة لمناطق أخرى كجزيرة الوراق وغيرها ومحاولة نزع ملكيتها من سكانها، وإلغاء تطبيق مبدأ "التقادم المكسب للملكية" على أرض الواقع، وعدم الاعتراف به.

ولن أتكلم كثيرًا عن تأميم عبد الناصر وما أحدثه من خلل وتغير في تركيبة المجتمع المصري، لأن السيسي لا يقلده بحذافيره، فعلى الأقل كان ناصر يبني صروحًا صناعية عملاقة مملوكة للدولة، ولكن السيسي لا يهدر فقط الملكية الخاصة للمواطنين، بل ولا يبقي ملكية عامة ذات قيمة وتدر دخلًا للدولة، فكل ما عدا القصور والطرق والكباري يعاديه ويفسده، فلم يسلم منه حتى الشجر، ورأينا مؤخرًا إفساده مصنع الحديد والصلب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقانون الإيجار القديم الممتد رغمًا عن أنف المالك بأمر من الدولة هو مثال آخر على إهدار الدولة للملكية الخاصة للمواطنين؛ حيث قامت الدولة بتأبيد العقد، ثم بتوريثه لورثة المستأجر، وكأن الدولة قد حولت العقار من ملك للمالك إلى وقف خيري يجري على المستأجر وورثته من بعده، في سابقة لم يسمع بها العالمين من قبل عبد الناصر، ولا زالت المهزلة مستمرة ولا حياء لدى المسئولين ولا المستأجرين!

وبدءًا من مارس 2021 تسعى الدولة المصرية إلى إجبار المواطنين على تسجيل ملكية وحداتهم العقارية بالشهر العقاري عن طريق ربط إدخال ونقل المرافق للعقار بوجود عقد مسجل في الشهر العقاري يثبت الملكية. وهو إجراء يبدو ظاهريًا منطقيًا ومتعارفًا عليه في دول العالم كافة، كما كان عُرفًا سائدًا لدى المصريين حتى عهد عبد الناصر، ثم بدأ المصريون منذ الستينات من القرن العشرين يلجأون إلى عقود البيع الابتدائية وعقود الإيجار الصورية -لوحداتهم التي يملكونها- عوضًا عن التسجيل في الشهر العقاري، ولعل في هذا ما يدعو العاقلين للتساؤل عن أسبابه. فهل السبب كان التهرب من دفع رسوم تسجيل الوحدة أم أن هناك أسبابًا إضافية قل أن يتكلم عنها أحد؟

المتعارف عليه شرعًا وقانونًا أن العقد المدني هو شريعة المتعاقدين، وأن للعقد طرفين لا ثالث لهما هما من يحددان بنوده، وبالنسبة لعقد البيع فطرفاه هما البائع والمشتري، والمفترض قانونًا أن يقوما بالتوجه إلى مكتب الشهر العقاري التابع له العقار لتسجيل ما اتفقا عليه في عقد البيع والتوقيع عليه أمام موثق العقود، والذي تقتصر وظيفته على الإشهاد وأخذ التوقيعات ووضع الأختام الرسمية التي تؤكد صحة العقد، فموثق العقد ليس طرفًا من أطراف التعاقد، وهو أمر بدهي لم تكن هناك حاجة بي لذكره لولا الانقلاب المفاهيمي الذي حدث لدى موظفي الدولة منذ الستينات، والذي جعلهم يظنون أنفسهم شركاء للمواطن في ملكه!

إن المشكلة الكبرى التي تواجه المواطنين والمقاولين في مصر عند بيع وحدات عقارية في بناء كبير هي توزيع حصص الوحدات (الشُقق والمحلات) في أرض العقار، وذلك لأن مساحات الوحدات قد تختلف ومن ثم تختلف حصتها في الأرض، كما أن مساحة الأرض غالبًا ما يُترك جزء منها لا يتم البناء عليه، وكثيرًا ما يخصص المالك هذه الأرض التي لم يُبنَ عليها كحديقة خاصة له إن كان يسكن في العقار، ولا توزع مساحتها على باقي السكان، بل توزع عليهم فقط حصتهم في مساحة الأرض التي تم البناء عليها، وأحيانًا ما يضيف المالك تلك المساحة الإضافية إلى حصة وحدات الدور الأرضي ترغيبًا للمشترين في شرائها باعتبارها فللًا صغيرة ذات حديقة خاصة، وأحيانًا يضيف المالك مساحة إضافية في أرض العقار لبعض الوحدات التي لا تطل على واجهة أو تقع في الدور الأخير ترغيبًا للمشترين، وكل هذه الممارسات المشروعة للمالك -باعتبار أن من حكم في ماله ما ظلم- قد صارت في خبر كان منذ أصبح موثقو العقود يضعون أنوفهم في بنود العقد ويغيرونها!

ومن أقسى ما سمعت في هذا السياق أن مقاولًا حصل على ترخيص بناء لبرج من تسعة طوابق، وبنى أول ستة طوابق منه، وباعها وأعطى المشترين عقودًا ابتدائية، فسارعوا إلى تسجيلها، وكان بناء الطوابق الثلاثة الأخيرة لم يتم بعد، فقام موظفو الشهر العقاري بإعادة تحصيص وتقسيم أرض العقار على الشقق التي تم بناؤها فقط فزادوا في حصصها، ولم يراعوا حصص ما لم يتم بناؤه، ما أدى إلى أن شقق الأدوار الأخيرة لم يصبح لها نصيب في أرض العقار وفقًا لعقود الشهر العقاري، وكأن أصحابها يملكون الهواء فقط، فليس لهم نصيب في الأرض رغم أن حصصهم في الأرض مثبتة في العقود الابتدائية!

ولأجل قيام موظفي الشهر العقاري بذلك التلاعب وخيانة الأمانة دون أن يلتفت إليهم أحد فهم يطلبون من المواطنين تقديم "التماس" بقبول تسجيل حصص وحدات العقار في الأرض ويوقعونهم عليه! كما يسجل موثقو العقود في العقد المشهر مساحة حصة الوحدة في العقار بالأسهم وليس بالأمتار كي لا يلحظ أحد تلاعبهم.

إن هذه المشكلة بالإصرار على تعديل حصص وحدات العقارات في الأرض وفقًا لما يراه موظفو الشهر العقاري تتسبب في عزوف كثيرين عن تسجيل وحداتهم والاكتفاء بدعوى صحة التوقيع. والحل ببساطة ليس أن تربط الدولة إدخال المرافق إلى العقار بتسجيله في الشهر العقاري، بل الحل يكمن في أن يعرف موثقو العقود في مصلحة الشهر العقاري حدودهم ولا يتخطوها، ويتفهموا أنهم ليسوا أحد أطراف العقد فلا يعدلوا في حصص الوحدات من الأرض التي اتفق عليها طرفا العقد، والتي تحددت قيمة الوحدة العقارية على أساسها، ولا يعدلوا في أي بند آخر، بل يسجلوا بنود العقد كما اتفق عليها طرفا التعاقد.

وينبغي اعتبار أي تغيير من موثق العقود في بنود العقد الابتدائي بين المالك والمستأجر أو في بنود توكيل المالك للمستأجر بالبيع إخلال بالأمانة من موثق العقود يُعاقب ويُجازى عليه، ونظرًا لأن هناك الآلاف من عقود البيع التي أشهرت في مصر عبر أكثر من نصف قرن قام موثقو العقود بالتلاعب في حصص الوحدات في أرض العقار، فالحل الأمثل هو عدم إلغاء هذه العقود وتعديل القانون بحيث يمكن للمواطن –بائعًا كان أم مشتريًا- التقدم بطلب تصحيح لحصة الوحدات العقارية مصحوبًا بالعقد الابتدائي أو توكيل البيع الصادر من البائع للمشتري، وأن تُضاف "استمارة تصحيح" حمراء اللون وصورة من العقد الابتدائي أو توكيل البيع إلى العقد المُشهر ذي اللون الأخضر، ويتم إعلام جميع الأطراف بذلك التصحيح بواسطة خطابات مسجلة. ويمكن أيضًا إضافة استمارة إلى العقد المُشهر لكل وحدة عقارية تُسمى بـ "استمارة تقسيم أرض العقار على الوحدات"، يوقع عليها مالك العقار الأول، على أن تشمل حصص الوحدات المبنية والمعتزم بناؤها، مع ذكر اسم المشتري صاحب الوحدة التي يتم تسجيلها، ولا يلزم ذكر أسماء أصحاب الوحدات الأخرى، مع تحديد ملكية جزء الأرض التي لم يتم البناء عليها –إن وجدت- في تلك الاستمارة. والأهم أن تفهم الدولة أن هناك ما يُعرف بـ "الملكية الخاصة".

ليست هناك تعليقات: